[b]رسالتي هذه نقلتها لكم من كتاب جواهر الأدب ، وهذا الكتاب مكون من جزأين للمؤلف أحمد الهاشمي - رحمه الله – وهذا الكتاب أكثر من رائع .
أتمنى لكم قراءة ممتعة .
--------------------------------------------------------------------------------
يروى أن المهلب لما فرغ من أمر عبدربه الحروري ( أحد الخوارج ) دعا بشر بن مالك فأنفذه بالبشارة إلى الحجاج ، فلما دخل على الحجاج قال : ما اسمك ؟ قال : بشر بن مالك ، فقال الحجاج : بشارة ومُلك ، كيف خلّفت المهلب ؟ قال : خلّفته وقد أمِنَ ما خاف ، وأدرك ما طلب ، قال : كيف كانت حالكم مع عدوكم ؟ قال : كانت البُداءة لهم والعاقبة لنا . قال الحجاج : العاقبة للمتقين ، فما حال الجُند ؟ قال : وسِعَهم الحق ، وأغناهم النفل ( الغنيمة ) ، وإنهم لمع رجل يسوسهم بسياسة الملوك ويقاتل بهم قتال الصُعلوك ، فلهم منه برّ الوالد ، وله منهم طاعة الولد ، قال : فما حال ولد المهلب ؟ قال : رُعاة البيات حتى يأمنوا ، وحماة السرج حتى يرُدُّوه ، قال : فأيهم أفضل ؟ قال : ذلك إلى أبيهم ، قال : وأنت أيضا ، فإني أرى لك لسانا وعبارة ، قال : هم كالحلقة المفرغة لا يُدرى أين طرفاها ، قال : ويحك !! أكنت أعددت لهذا المقام هذا المقال ؟ قال : لا يعلم الغيب إلا الله ، فقال الحجاج لجلسائه : هذا ـ والله ـ الكلام المطبوع ، لا الكلام المصنوع .
--------------------------------------------------------------------------------
لما عزم معاوية على البيعة ليزيد ، كتب إلى زياد أن يوجَّه إليه بوفد أهل العراق فبعث إليه بوفد البصرة والكوفة ، فتكلمت الخطباء في يزيد والأحنف بن قيس ساكت ، فلما فرغوا قال : قل يا أبا بحر فإن العيون إليك أشرع (أكثر) منها إلى غيرك ، فقام الأحنف فحمد الله ، وأثنى عليه ، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال : يا أمير المؤمنين ، إنك أعلمنا بيزيد في ليله ونهاره ، وإعلانه وإسراره ، فإن كنت تعلمه رضا ، فلا تشاور فيه أحدا ، ولا تقم له الخطباء والشعراء ، وإن كنت تعلم بُعدَه من الله ، فلا تزوده من الدنيا وترحل أنت إلى الآخرة فإنك تصير إلى يوم يفر المرء من أخيه ، وأمِّه وأبيه ، وصاحبته وبنيه . فكأنه أفرغ على معاوية ذنوب ( الدلو الملأى ) ماء بارد .
قال له : أقعد يا أبا بحر ، فإن خيرة الله تجري ، وقضاءه يمضي ، وأحكامه تنفذ ، ولا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه ، وإن يزيد فتى بَلوْناه ولم نجد في قريش فتى هو أجدر بأن يجتمع عليه منه .
فقال : يا أمير المؤمنين أنت تحكي عن شاهد ، ونحن نتكلم عن غائب وإذا أراد الله شيئا كان .
--------------------------------------------------------------------------------
قال سعيد بن مسلم بن قتيبة دعا المنصور بالربيع فقال : سلني ما تريد ؟ فقد سكت حتى نطقت ( كناية عن إطالتك بالسكوت ) وخففت حتى ثقلت ، واقللت حتى أكثرت . فقال : والله يا أمير المؤمنين ، ما أرهب بخلك ، ولا أستقصر عمرك ، ولا أستصغر فضلك , ولا أغتنم مالك ، وإن يومي بفضلك علّي أحسن من أمسي ، غدك في تأميلي أحسن من يومي ولو جاز أن يشكرك مثلي بغير الخدمة والمناصحة لما سبقني في ذلك أحد .
قال : صدقت . علمي بهذا منك أحَلّك هذا المحل ، فسلني ما شئت ؟
قال : أسألك أن تقرب عبدك الفضل وتؤثره وتحبه .
قال : يا ربيع ، إن الحب ليس بمال يوهب ، ولا رتبة تبذل ، وإنما تؤكده الأسباب .
قال : فاجعل لي طريقا إليه بالتفضل عليه .
قال : صدقت ، وقد وصلته بألف ألف درهم ، ولما أصل بهذا أحد غيره ، ومني لتعلم ما له عندي ، فيكون منه ما يستدعي به محبتي . وكيف سألت له المحبة يا ربيع ؟
قال : لآنها مفتاح كل خير ، ومغلاق كل شر ، تستر بها عندك عيوبه وتصير حسناتٍ ذنوبه قال : صدقت ، وأتيت بما أردت .
--------------------------------------------------------------------------------
لما أتي بالهرمزان اسيرا إلى عمر بن الخطاب قيل له : يا أمير المؤمنين هذا زعيم العجم وصاحب رئيسهم . فقال عمر : أعرض عليك افسلام نصحا لك في عاجلك وآجلك . قال : يا أمير المؤمنين إنما اعتقد ما أنا عليه . ولا أرغب في الإسلام فدعا له عمر بالسيف فلما هم بقتله قال يا أمير المؤمنين سربة من ماء أفضل من قتلي على ظمأ . فأمر له بشربة من ماء ، فلما أخذها قال : أأنا آمِنٌ حتى أشربها ؟ قال : نعم فرمى بها وقال : الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج . قال : صدقت لك التوقف عنك والنظر في أمرك . ارفعوا عنه السيف ، فلما رفع عنه قال : الآن يا أمير المؤمنين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وما جاء به حق من عنده . فقال عمر : أسلمت خير إسلام فما أخرك ؟ قال : كرهت أن تظن أني أسلمت جزعا من السيف . فقال عمر : إن لأهل فارس عقولا بها استحقوا ما كانوا فيه من الملك . ثم أمر به أن يُبرّ ويُكرم وكان بعده يشاوره في توجيه الجيوش لأهل فارس .
--------------------------------------------------------------------------------
جلس المأمون يوما للمظالم فكان آخر من تقدم إليه ، وقد همّ بالقيام امرأة عليها هيئة السفر ، وعليها ثياب رثة فوقفت بين يديه فقالت : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته . فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم . فقال لها يحيى : وعليك السلام يا أمة ، تكلمي في حاجتك ، فقالت :
يا خير منتصف يُهدى له الرشد ويا إماما به قد أشرق البلد
تشكو إليك عميد قوم أرملـــــة عدا عليها فلم يترك لها سبد
وابتزّ مني ضياعي مَنْعتهــــا ظلما وفرّق مني الأهل والولد
فأطرق المأمون حينا ثم رفع رأسه إليها وهو يقول :
في دون ما قلتِ زال الصبر والجلد عني وأقرح منــي القلــب والكبــدُ
هذا أوان صلاة العصر فانصرفي واحضري الخصم في اليوم الذي أعِدُ
والمجلس السبت إن يُقضَ الجلوس لنا ننصفك منـه وإلا المجــلس الأحــدُ
فلما كان يوم الأحد جلس فكان أول من تقدم إليه تلك المرأة فقالت : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فقال : وعليك السلام . أين الخصم ؟ فقالت : الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين ، وأومأت إلى العباس ابنه فقال : يا أحمد بن أبي خالد خُذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم ، فجعل كلامها يعلو كلام العباس . فقال لها أحمد بن أبي خالد : يا أمة الله إنك بين يدي أمير المؤمنين وإنك تكلمين الأمير فاخفضي من صوتك . فقال المأمون : دعها يا أحمد ، فإن الحق أنطقها وأخرسه ، ثم قضى لها بردّ ضيعتها إليها ، وأمر بالكتاب لها إلى العامل ببلدها أن يوفر لها صيعتها ويحسن معونتها وأمر لها بنفقة .
--------------------------------------------------------------------------------
قال سعيد بن مسلم : نذر المهدي دم رجل من أهل الكوفة ، كان يسعى في فساد سلطانه ، وجعل لمن دل عليه أو جاء به مائة ألف درهم . فأقام الرجل حينا متواريا ثم ظهر بمدينة السلام فكان ظاهرا كغائب خائفا مترقبا . فبينما هو يمشي في بعض نواحيها إذ بُصرَ به رجل من أهل الكوفة فعرفه فأهوى إلى مجامع ثوبه وقال : هذا بغية أمير المؤمنين فأمكن الرجل من قياده ، ونظر إلى الموت أمامه .
فبينما هو على تلك الحال ، إذ سمع وقع حوافر الخيل من وراء ظهره فالتفت فإذا معن بن زائدة فقال : يا أبا الوليد أجرني أجارك الله فوقف وقال للرجل الذي تعلق به وما شأنك ؟ قال : بغية أمير المؤمنين الذي نذر دمه ، وأعطى لمن دل عليه مائة ألف درهم .
فقال : يا غلام انزل عن دابتك واحمل أخانا ، فصاح الرجل يا معشر الناس يحال بيني وبين من طلبه أمير المؤمنين ! قال معن : اذهب فأخبره أنه عندي . فانطلق إلى باب أمير المؤمنين فأخبر الحاجب فدخل إلى المهدي فأخبره فأمر بحبس الرجل ووجّه إلى معن من يحضر به ، فأتته رسل أمير المؤمنين وقد لبس ثيابه وقُرّبت إليه دابته فدعا أهل بيته ومواليه وقال : لا يخلصن إلى هذا الرجل وفيكم عين تطرف ، ثم ركب ودخل حتى سلم على المهدي ، فلم يرد عليه وقال : يا معن أتجيرُ عليّ ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين . قال : ونَعَمْ أيضا ؟ واشتد غضبه ، فقال معن : يا أمير المؤمنين قتلت في طاعتكم باليمن في يوم واحد خمسة عشر ألفا ، ولي أيام كثيرة قد تقدم فيها بلائي وحسن غَنَائي ، فما رأيتموني أهلا أن تهبوا لي رجلا واحدا استجار بي ؟
فأطرق المهدي طويلا ثم رفع رأسه وقد سري عنه فقال : قد أجرنا من أجرت , قال معن : فإن رأى أمير المؤمنين أن يصله فيكون قد أحياه وأغناه ، قال : قد أمرنا له بخمسة آلاف ، قال : يا امير المؤمنين إن صلات الخلفاء على قدر جنايات الرعية ، وإن ذنب الرجل عظيم ، فأجزل الصلة ، قال : قد أمرنا له بمائة ألف ، قال : فتعجلها يا أمير المؤمنين بأفضل الدعاء ، ثم انصرف ولحقه المال ، فدعا الرجل وقال له : خذ صلتك والحق بأهلك وإياك ومخالفة خلفاء الله تعالى.[/b]